الدولي

فلاديمير بوتين.. حكم الإمام وحجة اليوتوب!

فلاديمير بوتين

هذا الصباح، عادت بي الذاكرة إلى أكثر من ثلاثة عقود تآكلت من عمري.. يحضرني الآن مشهد طفولي، عندما كانت مباريات كرة القدم تجمعنا كل مساء تقريبا، بملعب تقليدي، هو في الأصل “حصيدة” بجوار رادار مدينة الأخضرية.

من بين المداومين على حضور جميع المقابلات الكروية، شاب كان وقتها إماما.. لا أدري أين هو اليوم وما فعلت به الأيام. كان متدينا ورياضيا، وكانت مدينة الأخضرية وقتها تعج بكوادر روس “الاتحاد السوفياتي سابقا”، معظمهم يشتغلون بمستشفى المدينة الذي كان أحسن مستشفيات البلاد على الإطلاق بفضل صرامة وكفاءة الروس.

كان صديقنا الإمام، يصر على اللعب بالجلابة، ويقوم بدور قائد الفريق بالنظر إلى فارق السن بيننا، وبالنظر إلى رزانته واستقامته، وكان قبل كل مقابلة كروية تجمعنا بأفراد الجالية الروسية، يحفزنا ويلقي على مسامعنا دروسا في الوطنية في شكل موعظة. أذكر أنه كان يصرخ فينا بحماس كبير وهو يعض على جلابته “قميصه” ويقول.. عليكم بقهر الروس الملاعنة.. أعداء الله.. ينبغي أن تعلموا أن الأمر لا يعني مجرد مقابلة في كرة القدم، إنها معركة بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر.. ومن يومها ترسخت في ذهني كما كل أعضاء الفريق فكرة مفادها أن هؤلاء الرواسة الذين جاءوا من بلادهم ليؤمنوا لنا حاجياتنا الصحية ويسهرون على سلامتنا، هم في الحقيقة “ملاعنة” على حد وصف صديقنا الإمام!

اليوم أتذكر تلك الصور والوقائع، وأنا أتابع فيديو من اليوتوب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عندما كان وزيرا أول.. واجهته مشكلة اقتصادية بسبب وضع أحد أكبر المصانع الروسية الذي كان مهددا بالغلق.. وليس بالضرورة أن أذكركم بانعكاسات غلق مصنع كبير اجتماعيا واقتصاديا..

بوتين جمع يومها كبار رجال الأعمال الروس، وألقى عليهم خطابا قصيرا جدا، وخلص إلى إجبارهم وإرغامهم على القيام بما يمنع غلق المصنع، وبما يضمن استمراريته، وقال لهم بلغة صريحة وواضحة. “لا أفرض عليكم الحلول، ولكن أجبركم على اتخاذ أي موقف يضمن استمرارية المصنع بأي طريقة”، وعندما لاحظ أن ورقة الحضور خالية من توقيع أكبر وأغنى رجل أعمال روسي وأخطرهم من حيث النفوذ كان حاضرا في الاجتماع، خاطبه باسمه، وأمره بالتوقيع على القرار المتخذ..

بوتين كما تلاحظون في الفيديو، لم يستعمل خطابا عاطفيا، ولا ديماغوجيا. ألغى في خطابه القصير سائر القواعد النمطية التي لا جدوى منها.. لم يقل لرجال الأعمال الذين اجتمع بهم.. إن روسيا هي أمنا جميعا، وهي اليوم مهددة بفعل مؤامرات خارجية وسياط قوى الشر في الخارج والداخل.. كان مختصرا في أمره، وفهم منه الحضور أن الرجل يتحدث بمنطق الدولة، وعندما يحضر منطق الدولة يغيب منطق عتاريس الفساد مهما كانت قوتهم وامتداداتهم.

أتمنى اليوم أن يقرأ صديقي الإمام “إن كان ما يزال على قيد الحياة” هذه الكلمات، ويفهم ما أريد أن يفهمه. فاذا استعصى عليه الفهم، أقول له مرة أخرى:

أنظر يا صديقي إلى بوتين وهو اليوم رئيس دولة كنت تصف شعبها بالملاعنة، وقارن بين أسلوب حكمه وأسلوب حكم “الأطهار” ممن يحكمون شعوبنا العربية والإسلامية.

أنظر يا صديقي واحكم بنفسك بين وضع دولة “الملاعنة” ووضع دول الاتقياء في عالمنا العربي والإسلامي!

عليك أن تقتنع يا صديقي، أن الأوطان تبنى وتعلو وتسود بمنطق الدولة، وتجسيد منطق الدولة لا يحتاج لحاكم “نبي”، أو داعية، وكذلك هو فلاديمير بوتين، ليس نبيا ولا داعية، لكنه بنى دولة.

ملاحظة: أرجو من الذين يقرأون هذه الكلمات بالعاطفة قبل العقل، ان يتذكروا أن الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى